عمل الدماغ
يحدد تركيب الدماغ خبراتنا عن العالم حولنا، وتتحكم هذه الخبرات بدورها في كيفية نمو العصبونات، وارتباطها بعضها ببعض. وتتفاوت أدمغة الناس كثيرًا، اعتمادًا على خلفية كل شخص وخبرته. فالأصابع تنشط منطقة محددة من القشرة الحسية لدى كل الناس، ولكن هذه المنطقة أكبر لدى أولئك الذين يستخدمون أصابعهم أكثر، مثل العازفين على الآلات الوترية، أو الذين يقرأون بطريقة بريل (حروف من نقاط بارزة، مصممة خصيصًا للعميان).
وجد العلماء أيضًا دلائل تشير إلى أن أدمغة الرجال والنساء مختلفة. فالجسم الأصغر، أي شريط الألياف العصبية السميك الذي يربط بين نصفي الكرة المخية، كبير في النساء. وأوضحت الفحوصات الدقيقة للدماغ بعد الوفاة، أن عدد العصبونات في القشرة أكثر بنسبة 10% في النساء مقارنة بالرجال. كذلك أوضحت الدراسات التي أجريت في مجال قراءة الكلمات، والتفكير فيها، بعض الفروق بين الرجال والنساء، حيث وجد أن الرجال يستخدمون بصفة عامة نصف الكرة المخية الأيسر في معالجة اللغة، بينما تستخدم النساء النصفين.
والباحثون غير متأكدين من أن هذه الفروق العضوية بين أدمغة الرجال والنساء تعني وجود فرق في طريقة التفكير بين الجنسين. وهناك بعض الدلائل عن وجود اختلاف في القوة الذهنية بين الجنسين، حيث تشير الدراسات النفسية بصفة دائمة إلى أن أداء الرجال، في المتوسط، أفضل في المهام التي تتطلب مهارات فراغية، أي المهام التي تتطلب التعامل مع الأبعاد، مثل رؤية الأجسام بأبعادها الثلاثية، بينما تتفوق النساء على الرجال في اختبارات الكتابة والقراءة والتحصيل اللغوي. ولكن متوسط الفرق المذكور أعلاه ليس كبيرًا. فالأداء اللغوي للكثير من الرجال أفضل من متوسط أداء النساء، والكثير من النساء ذوات مهارات فراغية أفضل من متوسط مهارات الرجال.
طور العلماء طرقًا عديدة لدراسة كيفية عمل الدماغ. وقد كشفت التجارب على الحيوانات قدرًا كبيرًا من عمل أجزاء الدماغ المختلفة. وبدراسة الأدمغة المصابة توصل العلماء إلى الكثير من المعلومات عن النشاط الطبيعي للدماغ، حيث تسبب إصابة جزء معين من الدماغ مشاكل متوقعة في التحدث والحركة والقوة الذهنية.
وقد تمكن الجراحون من تخريط وظائف العديد من مناطق القشرة المخية، وذلك بالاستثارة الكهربائية للدماغ خلال الجراحة الدماغية. ولاتتطلب عمليات الدماغ أن يفقد المريض وعيه، حيث لايشعر المريض بالألم بسبب المعالجة المباشرة للدماغ، ومن ثم يستطيع أن يُخبر الجراح عن شعوره عند تنبيه مناطق معينة بالدماغ.
وقد كشفت جراحة الدماغ أنّ وظائف معينة للمخ تتم أساسًا في أحد نصفي الكرة المخية، ولذا نجح الأطباء في علاج بعض حالات الصرع عن طريق قطع الجسم الثَفَني. وتحدث هذه العملية الجراحية حالة تسمى فصل المخ، حيث ينتهي فيها الاتصال بين نصفي المخ. وقد أوضحت دراسات فصل المخ أن النصف الأيسر يتحكم في قدرات الفرد على استعمال اللغة والرياضيات والمنطق، بينما يتحكم النصف الأيمن في قدرات الفرد الموسيقية والتعرف على الوجوه والرؤية المركبة والتعبيرات الوجدانية.
وتمكن تقنيتان جديدتان مأمونتان هما: التصوير المقطعي بابتعاث البوزيترونات والتصوير بالرنين المغنطيسي الوظيفي، العلماء من دراسة الدماغ السليم أثناء عمله. ولاتتطلب هاتان التقنيتان اتصالاً مباشرًا بالدماغ، ولكنهما ينتجان صورًا شبيهة بصور الأشعة السينية، والتي توضح أي أجزاء الدماغ يعمل أثناء أداء الشخص نشاطًا ذهنيًا أو بدنيًا، حيث يوضح التصوير المقطعي بابتعاث البوزيترونات أجزاء الدماغ الأكثر استهلاكًا للجلوكوز، بينما يوضح التصوير بالرنين المغنطيسي الوظيفي، الأجزاء التي يشير فيها استهلاك معدلات عالية من الأكسجين إلى نشاط الجزء.
في استقبال الإشارات الحسية. تُستقبل الرسائل الحسية وتُفسر، بصفة أساسية، في القشرة المخية، حيث ترسل مختلف أعضاء الجسم دُفْعات عصبية إلى المهاد، الذي يبعثها إلى المناطق الملائمة من القشرة المخية. وتستقبل منطقة معينة من القشرة الحسية تسمى القشرة الحسية الجسدية الرسائل من مناطق الإحساس في الجسد، مثل اللمس ودرجة الحرارة، وتفسرها. وهي تقع في الفص الجداري لكل نصف، على امتداد الشق المركزي، ويتخصص كل جزء منها في استقبال وتفسير الإشارات من أجزاء معينة من الجسم.
وتستقبل الأجزاء المتخصصة الأخرى من المخ الرسائل الحسية الخاصة بالرؤية والاستماع والتذوق والشم، حيث تذهب الدفعات القادمة من العين إلى القشرة البصرية في الفص القذالي، وتستقبل أجزاء من الفص الصدغي نبضات الأذن، وتقع منطقة التذوق داخل الشق الجانبي، ومركز الشم أسفل الفص الجبهي.
الأجزاء التي تقع في إطار المناطق الحركية
في السيطرة على الحركة. بعض الأفعال المنعكسة لا تمر بالدماغ. فإذا لمس فرد مصدرًا ساخنًا مثلاً، تنتقل نبضات الألم إلى الحبل الشوكي، الذي يبعث رسالة ليسحب الفرد يده. وبالرغم من ذلك يؤدي الدماغ الدور الرئيسي في التحكم في حركاتنا الإرادية واللاإرادية. ويوجد داخل المخ تجمعات منفصلة من العصبونات تسمى العقد القاعدية أو النوى القاعدية. وتساعد هذه العُقَد في التحكم في الحركات اللاإرادية المتتالية لبعض النشاطات مثل المشي والأكل، بينما تتحكم مناطق أخرى في جذع الدماغ في حركة العضلات اللاإرادية التي تبطن جُدران المعدة والأمعاء والأوعية الدموية.
وينظم المخيخ والقشرة المخية معًا الحركات الإرادية،إلى حد كبير، حيث ترسل القشرة الحركية في كل من نصفي الكرة المخية دُفعات عصبية إلى العضلات الخاصة بنشاط معين، مثل الكتابة أو قذف الكرة. وتقع القشرة الحركية في الفص الجبهي أمام الشق المركزي. وتتحكم كل منطقة من القشرة الحركية في حركات جزء معين من الجسم. وتتحكم أكبر أجزاء القشرة في الأجزاء التي تؤدي أكثر الحركات تعقيدًا وتحديدًا - مثل الشفتين واللسان- التي تؤدي حركات مركبة أثناء عملية الكلام، بينما تتحكم الأجزاء الأصغر في الحركات الأبسط نسبيًا، مثل حركة الكتف والظهر.
وتتقاطع المسارات الحركية إلى الجسم فوق جذع الدماغ، وعليه تتحكم القشرة الحركية لنصف الكرة الأيسر في حركة الجانب الأيمن من الجسم. وبنفس الطريقة توجه القشرة الحركية اليمنى حركات الجانب الأيسر من الجسم. ويستعمل أكثر من 90% من البشر اليد اليمنى لأن القشرة الحركية اليسرى التي توجه اليد اليمنى تهيمن على القشرة الحركية اليمنى التي توجه اليد اليسرى.
وينسق المخيخ بين حركات العضلات التي تأمر بها القشرة الحركية، حيث تنبه دفعات عصبية المخيخ، عندما تأمر القشرة الحركية جزءًا من الجسم بأداء عمل معين. فعندما يصل الأمر إلى العضو المعين، تنبه دفعات عصبية من العضو، على الفور، المخيخ إلى الكيفية التي يؤدي بها العمل. ويقارن المخيخ الحركة بالحركة المطلوبة، ثم يتصل بالقشرة المخية لتقوم بتصحيح اللازم. وبهذه الطريقة يتأكد المخيخ من أن الجسم يتحرك بكفاءة وسهولة.
التصوير المقطعي بابتعاث البوزيترونات تقنية تستخدم في تصوير نشاط الدماغ. توضح الصور إلى اليسار، المأخوذة باستخدام هذه التقنية، مناطق نصف الكرة المخية الأيسر، النشطة أثناء أداء الشخص المهارات اللغوية. وتوضح الخطوط البيضاء المخ وشقيه الجانبي والمركزي. وتكون العصبونات في أقصى حالات نشاطها في المناطق الحمراء اللون، ويقل النشاط كلما انتقل اللون عبر الطيف الممتد من الأحمر إلى البنفسجي.
في استعمال اللغة. في أواخر القرن التاسع عشر، لاحظ العلماء أن تدمير جزء معين من الدماغ، يسبب نفس العجز اللغوي في معظم المرضى. فالتدمير الذي يصيب الفص الجبهي الأيسر في منطقة بروكا، والتي سميت على اسم الجراح الفرنسي بيير باول بروكا، يدمر بدوره القدرة على الكلام، بينما يسبب التدمير الذي يلحق بالفص الصدغي الأيسر، في منطقة فيرنك، التي سميت على اسم عالم الأعصاب الألماني كارل فيرنك، صعوبات في فهم اللغة. وقد قادت هذه الملاحظات العلماء إلى الاعتقاد بأن الدماغ يعالج الكلمات في مراحل منظمة، عبر سلسلة من المناطق ذات الصلة باللغة. ولكن باستخدام تقنيات تصوير معينة، مثل التصوير المقطعي بابتعاث البوزيترونات والتصوير بالرنين المغنطيسي الوظيفي، يستطيع العلماء مراقبة الدماغ مباشرة أثناء التحدث أو الاستماع أو القراءة أو التفكير. وقد أوضحت الدراسات المبنية على هذه التقنيات أن معالجة اللغة أمر بالغ التعقيد. فمناطق اللغة تحتل مساحات واسعة من الدماغ، وتنشط أنواع متباينة من المهام اللغوية هذه المناطق بطرق وأنماط مختلفة.
في تنظيم عمليات الجسم. توجد مراكز تنظيم عمليات الجسم الرئيسية بجذع الدماغ. فالمراكز العصبية في البَصَلة تنظم عمليات التنفس وضربات القلب وتدفق الدم، بينما تنظم مناطق جذع الدماغ الأخرى عمليات البلع وحركة المعدة والأمعاء.
وتوجد في تحت المهاد أيضًا مراكز عصبية تتحكم في بعض عمليات الجسم. ومعظم هذه المراكز تحافظ على استقرار الحالة الداخلية للجسم. فبعض المراكز، على سبيل المثال، تتحكم في كمية الماء في الجسم، حيث ترصد عصبونات معينة تغيرات مستوى الماء في الدم والأنسجة، وتنقل هذه المعلومات إلى تحت المهاد. فإذا كان مستوى الماء منخفضًا، ينتج تحت المهاد الإحساس بالعطش، مما يدفع الفرد إلى شرب الماء. وفي نفس الوقت يرسل تحت المهاد رسائل إلى الكليتين لخفض كميات المياه المفقودة من الجسم. وفي حالة ازدياد مستوى الماء في الجسم يرسل تحت المهاد رسائل تزيل الإحساس بالعطش، وتزيد كمية الماء المفقودة عن طريق الكليتين. وتعمل المراكز الأخرى في تحت المهاد - حسب المبدأ نفسه- لتنظيم عملية الجوع ودرجة حرارة الجسم.
ويتصل تحت المهاد بالغدة الرئيسية في الجسم، أي الغدة النخامية، عن طريق جسم رفيع من الأنسجة. وينظم تحت المهاد العديد من عمليات الجسم بالتحكم في إنتاج الغدة النخامية للرسائل الكيميائية المسماة الهورمونات، وإطلاقها. فبجانب وظائفها الأخرى، تنظم هذه الهورمونات معدل نمو الجسم والعمليات الجنسية والتكاثرية.
في إنتاج الانفعالات. يشارك في تنظيم الانفعالات التي نمر بها، العديد من مناطق الدماغ، بالإضافة إلى أعضاء الجسم الأخرى. وتؤدي مجموعة تراكيب في الدماغ تسمى الجهاز الحوفي، دورًا مركزيًا في إنتاج الانفعالات. ويتكون هذا الجهاز من أجزاء من الفص الصدغي، وأجزاء من المهاد وتحت المهاد، وتراكيب أخرى.
ويثار الانفعال عادة بفكرة في القشرة المخية أو برسائل من أعضاء الحس. وفي الحالين تصل الدُفْعات العصبية المنتجة إلى الجهاز الحوفي. وتنبه الدُفْعات العصبية مناطق مختلفة من الجهاز حسب أنواع الرسائل الحسية أو الأفكار. فقد تنشِّط الدفعات، على سبيل المثال، أجزاء الجهاز التي تنتج الأحاسيس الجميلة المرتبطة بانفعالات مثل الفرحة والحب، وقد تثير المناطق التي تنتج الأحاسيس غير الجميلة المرتبطة بانفعالات مثل الغضب والخوف.
في التفكير والتذكر. لا يملك العلماء سوى القليل من المعلومات عن العمليات البالغة التعقيد، المرتبطة بالتفكير والتذكر. فالتفكير ينطوي على معالجة المعلومات عبر دوائر في منطقة قشرة الترابط وأجزاء الدماغ الأخرى، حيث تمكن هذه الدوائر الدماغ من ربط المعلومات المخزونة في الذاكرة، بالمعلومات التي تجمعها الحواس. والعلماء الآن في طور الفهم الأولي لأبسط دوائر الدماغ. أما تكوين الأفكار المجردة ودراسة المواضيع الصعبة، فتتطلب دوائر معقدة بدرجة تثير الحيرة. وتؤدي الفصوص الأمامية من المخ دورًا أساسيًا في العديد من عمليات التفكير التي تميز الإنسان عن الحيوانات. وهي مهمة بصفة خاصة في التفكير التجريدي، وفي تخيل النتائج المتوقعة للأفعال، وفي فهم مشاعر وأحاسيس الشخص الآخر. وقد تؤدي إصابة الفصوص الأمامية، أو نموها غير العادي، إلى فقدان هذه القدرات.
وبعض جوانب التفكير البشري، مثل المعتقدات الدينية والفلسفية، خارج نطاق فهم العلماء الآن، وقد تظل كذلك لفترة طويلة قادمة. وأمام العلماء الآن الكثير مما ينبغي استقصاؤه حول الأساس العضوي للذاكرة. فبعض تراكيب الجهاز الحوفي تؤدي أدوارًا رئيسية في تخزين واستعادة المعلومات. ومن هذه التراكيب الجسم اللوزي والحصين، وكلاهما في الفص الصدغي. وقد يفقد أولئك الذين يتعرضون لإصابات في هذه التراكيب القدرة على تكوين ذكريات جديدة، بالرغم من قدرتهم على استعادة المعلومات المتعلقة بالأحداث التي سبقت الإصابة. فبإمكان هؤلاء الأشخاص تعلم المهارات البدنية الجديدة، ولكن عند أدائهم لهذه المهارات ينسون أنهم قاموا بها من قبل.
وتشير بعض الدلائل إلى أن الذكريات ربما تتكون من خلال إنشاء دوائر دماغية جديدة، أو تغيير الداوئر الموجودة. وتنطوي كلتا العمليتين على تغيرات عند المشابك، أي التراكيب التي تمر عندها الدفعات من عصبون إلى آخر. وتتحكم الجليكوبروتينات وجزيئات كبيرة أخرى عند المشابك، في هذه التغيرات. ويتطلب إثبات هذا التفسير العام لتكوين الذاكرة أبحاثًا مكثفة، لكشف التفاصيل الدقيقة للعمليات المرتبطة به.