الفحص الجيني تقويم طبي يحدد ما إذا كانت خلايا شخص ما تحتوي على مادة جينية لها ارتباط بأحد الاضطرابات الوراثية. وتتكون المادة من شكل معين من أشكال الجينات (المورثات). والجينات مجموعة من المعلومات البيولوجية (الأحيائية) المشفرة كيميائيًا الموجودة داخل كل خلية. حيث يحمل كل شكل من أشكال الجينات مجموعة محددة من التعليمات.
يركز الفحص الجيني على التعرف على أشكال الجينات التي لها ارتباط بالمرض، وتطوير طرق للكشف عنها. وتجرى العديد من هذه الفحوص عن طريق اختبار المادة الجينية داخل الخلايا والتي يتم الحصول عليها من عينات الدم، أو من داخل خدود الشخص، أو من جذور شعره. ويتضمن أسلوب آخر تحديد ما إذا البروتين الناتج عن إحدى الجينات طبيعي أم لا. لقد أصبح الفحص الجيني من أحد مجالات البحث الطبي الشديدة النشاط.
كيف تنقل الجينات (المورثات) المعلومات. تقوم الجينات (المورثات) بتشفير المعلومات في قطع معينة من مادة كيميائية تسمى د ن أ (الحمض النووي الريبي منقوص الأكسجين). ويتكون د ن أ من أربعة أنواع من المواد الكيميائية البسيطة التي تسمى القواعد، وهي: الأدنين (أ)، والسيتوسين (س)، والجوانين (ج)، والثيمين (ث). ويلتف د ن أ بصورة محكمة ليشكل تراكيب تسمى الكروموزومات (الصبغيات). ويتميز البشر بوجود 23 زوجًا من الكروموزمات داخل نواة كل خلية، ما عدا الخلايا البيضية وخلايا النطاف، التي تحتوي على كروموزوم واحد من كل زوج. ويرث البشر كروموزومًا واحدًا من كل زوج من أمهاتهم، بينما يرثون الكروموزوم الآخر من آبائهم. وحسب تقديرات العلماء، تحتوي الكروموزومات البشرية على عدد يتراوح بين 50,000 إلى 100,000 مورثة. وتحدد طريقة ترتيب القواعد أ، س، ج، ث، نوعية المعلومات المشفرة في كل مورثة. ويسمى الموقع الطبيعي للمورثة على الكروموزوم الموضع.
ويسمى أي شكل من أشكال الجينات التي يمكن أن توجد في موضع معين أليل. وبعض الجينات لها أليلات مختلفة قد تبلغ العديد من المئات. وبصورة عامة، يرث الناس أليلين لكل مورثة واحد ضمن مجموعة الكروموزومات التي يتلقونها من أمهاتهم، والآخر ضمن المجموعة التي يتلقونها من آبائهم. وفي بعض الحالات النادرة قد يأتي كلا الأليلين في أحد المواضع المعينة من أحد الوالدين.
ولتوخي الدقة، فإن الفحص الجيني يكشف الأليلات وليس الجينات. وعلى الرغم من أن الناس يشيرون بصورة عامة إلى "الفحص للجينات"، إلا أن هذا الوصف غير دقيق. فكل فرد لديه شكل من أشكال المورثة المسؤولة عن صفة معينة في ذلك الموضع. ويثبت الفحص الجيني ما إذا كان الشخص يحمل أليلاً شاذًا له ارتباط بأحد الاضطرابات المعينة. وتنتج الأليلات الشاذة عن الطفرة، وهي عملية عشوائية تؤدي إلى تغيرات في ترتيب القواعد في المورثة.
وغالبًا ما يستخدم العلماء مثال الهيموجلوبين، وهو الجزيء الحامل للأكسجين الموجود في خلايا الدم الحمراء، لإيضاح العلاقة بين المورثات، والأليلات، و د ن أ. وتوجد مورثات للهيموجلوبين في موضع الهيموجلوبين الخاص بكل فرد، بالإضافة إلى العديد من الأليلات المختلفة المتعلقة بها. وأحد أليلات الهيموجلوبين، الذي يسمى الهيموجلوبين أس أو الهيموجلوبين المنجلي، له علاقة بالمرض المعروف باسم فقر الدم المنجلي (الأنيميا المنجلية). وفي هذا المرض تلتوي خلايا الدم الحمراء المستديرة عادة لتأخذ شكل الهلال، في الوقت الذي يقوم فيه الهيموجلوبين أس باطلاق الأكسجين. وتؤدي الخلايا المشوهة إلى انسداد الأوعية الدموية الدقيقة، وتسبب أعراضًا خطيرة. ويختلف الأليل الخاص بالهيموجلوبين أس، عن الأليلات الأخرى بمقدار قاعدة واحدة فقط في أحد سلاسل د ن أ المسؤولة عن التشفير فيما يتعلق بالهيموجلوبين.
المورثات المرتبطة بالأمراض. تختلف أهمية المورثات في تحديد بعض الأمراض المعينة أو الصفات الأخرى. فهناك بضع آلاف من الاضطرابات التي تحدث نتيجة لوجود أليل شاذ واحد أو أكثر، في مورثة واحدة. وفي أغلب الأحيان تكون العلاقة بين المورثات والمرض معقدة. فالكثير من الأمراض الوراثية تتضمن أليلات للعديد من المورثات. كما تؤدي أيضًا العوامل البيئية مثل الغذاء، والتمارين، أو التدخين، دورًا مهمًا في العديد من الاضطرابات.
أمراض المورثة الواحدة. تكون معظم الأمراض الناتجة عن مورثة واحدة نادرة، ويسبب العديد منها حالات عجز خطيرة، أو ألم مبرح، أو حتى الموت المبكر. ويصنف العلماء الأمراض الناتجة عن مورثة واحدة إلى سائدة أو متنحية. ويظهر المرض السائد في الشخص الذي ورث أليلاً شاذًا من أحد الوالدين فقط. ولا تؤدي وراثة أليل سوي من الوالد الآخر إلى منع حدوث المرض.
وتكون العديد من الأمراض السائدة قاتلة في مرحلة الطفولة، وبالتالي فإن الأفراد المتأثرين لا تتاح لهم الفرصة للعيش مدة كافية لنقل المرض للأجيال القادمة. ولكن القليل من الأمراض السائدة، لا يظهر حتى سن البلوغ، في وقت قد يكون فيه العديد من الأفراد المتأثرين قد أنجبوا أطفالاً. وأحد هذه الحالات هوالاضطراب العصبي المميت المعروف باسم مرض هنتنجتون، والذي يظهر بصورة نمطية عندما تكون أعمار الأفراد المتأثرين بين 35 و 40 سنة. وتبلغ فرصة وراثة أطفال الشخص المصاب بمرض هنتنجتون للأليل الشاذ للوالد المتأثر 50%.
ومعظم اضطرابات المورثة الواحدة متنحية. فهذه الأمراض تحدث فقط للأفراد الذين ورثوا أليلاً شاذًا من كلا الأبوين. ويسمى الشخص الذي لديه أليلاً شاذًا واحدًا لهذه الأمراض حامل المرض، ولا يعاني في العادة من أي أعراض، أو يعاني من أعراض قليلة فقط. وتشمل الأمثلة على أمراض المورثة الواحدة المتنحية التي لا يعاني فيها الحامل من أي أعراض أو يعاني من أعراض قليلة، أنيميا الخلية المنجلية، والتليف الكيسي، وهو اضطراب قاتل يصيب الرئة والجهاز الهضمي.
وتسمى بعض الحالات المتنحية المعروفة الاضطرابات المتنحية المرتبطة بالكروموزوم X. وتحمل أليلات هذه الاضطرابات على الكروموزوم X، وهو أحد كروموزومين يحددان نوع الجنس. ويسمى الكروموزوم الآخر المحدد لنوع الجنس Y. فالذكر يحتوي على كروموزومي XY، والأنثى على كروموزومي . فالذكر (XY) الذي يرث أليلاً شاذًا متنحيًا على كروموزوم X، سيكون مفتقرًا إلى أليل سوي على كروموزوم Y الخاص به، مما سيؤدي إلى إصابته بالاضطراب المرتبط بذلك الشذوذ. ولكن الإناث اللائي يرثن أليلاً شاذًا على أحد كروموزومي X، يكون لديهن في العادة أليلاً طبيعيًا على الكروموزوم الآخر، وبالتالي لن يعانين من الاضطراب. ويمثل اضطراب تجلط الدم المعروف باسم الناعورية (الهيموفيليا)، أحد الأمثلة على الأمراض المتنحية المرتبطة بالكروموزوم X.
تسمى أمراض المورثة الواحدة، التي تحدث دائمًا عندما يكون لدى الناس الأليل، أو الأليلين المسببة تامة الاختراق. كما تسمى هذه الأمراض أيضًا مندلية لأنها تتبع أنماط الوراثة القابلة للتنبؤ، التي لاحظها الراهب النمساوي جريجور مندل خلال التجارب التي أجراها على بازلاء الحديقة في القرن التاسع عشر.
ويتوفر عدد من الفحوص للكشف عن أمراض المورثة الواحدة التامة الاختراق. وباستطاعة هذه الفحوص التنبؤ على نحو حاسم بإمكانية حدوث المرض. ولكن ليس بإمكانية الفحوص التنبؤ بمدى حدة المرض، والتي يمكن أن تتفاوت من شخص إلى آخر أو من عائلة إلى أخرى. على سبيل المثال، باستطاعة فحوص الدم أن تحدد ما إذا كان الأشخاص الذين سيصبحون آباء أو أمهات، يحملون الأليل الشاذ المسؤول عن التليف الكيسي. فإذا كان كلا الوالدين من الحاملين للمرض، فإن فرصة إصابة أطفالهم بالتليف الكيسي ستكون بنسبة 1 من كل 4. وقد يختار الأبوان اللذان يكتشفان أن كليهما حامل للمرض، إخضاع كل الأطفال الذين يحملون بهم لمزيد من الفحوص الجينية قبل الولادة. وإذا اكتشف الوالدان، في الغرب، أن الطفل الذي لم يولد مصاب بالمرض، فإنهم يملكون الخيار في إنهاء الحمل. أما في البلاد الإسلامية فتوجد ضوابط، وفق التعاليم الإسلامية، لعملية الإجهاض. انظر: الإجهاض. فالشرع لا يجيز الإجهاض إلا إذا تأكد قطعيًا أن متابعة الحمل قد تفضي إلى وفاة الأم، أو تسبب مرضًا شديدًا ودائمًا لها.
الاضطرابات التي تتضمن أكثر من مورثة. تتضمن معظم الأمراض الجينية أكثر من مورثة واحدة. كما يتأثر العديد من هذه الاضطرابات أيضًا بالعوامل البيئية. على سبيل المثال، تزيد بعض الأليلات المعينة الموجودة في موضع يسمى بركا 1 "BRCA 1'، على نحو كبير من احتمال إصابة امرأة ما بسرطان الثدي، دون أن تؤكد حتمية حدوثه. ويسمى مثل هذا الأليل ناقص الاختراق. وستكون وراثة مثل هذا الأليل من أحد الوالدين كافية لزيادة خطر الإصابة بالمرض.
تتوفر الفحوصات الخاصة ببعض الأليلات ـ بما في ذلك الأليلات الموجودة في الموضع بركا 1ـ التي تزيد من خطر الإصابة بالمرض. ولكن قد يكون من الصعب تفسير نتائج مثل هذه الفحوص. وتتمثل إحدى الصعوبات في أنه ليس بالضرورة أن يصاب كل شخص لديه أليل واحد من هذا النوع بالمرض. وعلاوة على ذلك، فإن الناس الذين لديهم أليل واحد من هذا النوع، ولكن ليس لديهم أقارب، أو لديهم قلة من الأقارب المصابين بالمرض، قد يتعرضون للإصابة بنسبة تقل عن نسبة إصابة الناس الذين لديهم العديد من أفراد الأسرة المصابين بالمرض.
بشائر النجاح والتحديات المتعلقة بالفحص الجيني. لقد تسبب الفحص الجيني في كثير من الإثارة في أوساط العلماء والمرضى، لأنه وفر إمكانية تعرف المشاكل الصحية المستقبلية. ففي بعض الحالات قد تؤدي معرفة أن شخصًا ما يحمل أليلاً شاذًا إلى جعل ذلك الشخص قادرًا على تجنب الاضطراب المرتبط بذلك الأليل. فقد تساعد بعض الإجراءات، مثل الإشراف الطبي الدقيق، والتغيرات في نمط الحياة، بعض الناس على تجنب الإصابة بأمراض خطيرة. كما يأمل العلماء أيضًا أن تمكنهم الاكتشافات المستقبلية من تطوير علاجات قادرة على تصحيح الأخطاء الجينية مباشرة على المادة الكيميائية د ن أ التي تعاني من الشذوذ.
ولكن الفحوص الجينية تتضمن أيضًا بعض أوجه القصور الطبية، وتثير بعض الهموم الاجتماعية. وإحدى المسائل المثارة هي أن الفحوص الجينية ليست قادرة دائمًا على التنبؤ الدقيق بالأمراض المستقبلية. إضافة إلى أنه لاتوجد حتى الآن علاجات لبعض الاضطرابات التي تتوفر لها الفحوص الجينية. ومثل هذه المواقف سوف تثقل كاهل الأفراد البالغين بالمعرفة المتعلقة ببعض الأمراض المستقبلية التي لا يمكن علاجها، أو تواجه آباء الأطفال الذين لم يولدوا بعد، بخيارات صعبة حول ما إذا كان ينبغي عليهم إنهاء الحمل أم لا.
تعد خصوصية الفحوص الجينية، من المسائل الاجتماعية التي تثير قلق العديد من العلماء وصانعي السياسات. فهم يخشون أن ترفض شركات التأمين منح حق التأمين الصحي لبعض الأفراد الأصحاء الذين تظهر نتائج الفحوص الخاصة بهم وجود احتمال كبير أو يقين، فيما يتعلق بإصابتهم بأمراض مستقبلية. وقد طبقت بعض الولايات الأمريكية قوانين تمنع التمييز على أساس نتائج الفحص الجيني، في مجال التأمين الصحي.
كما يثير الفحص الجيني أيضًا مخاوف من أن تستخدم النتائج لأغراض يجدها معظم الناس غير مقبولة، مثل أغراض علم تحسين النسل. وعلم تحسين النسل هو الممارسة التي تتم بموجبها محاولة التحكم في التزاوج البشري، لتشجيع صفات "مرغوبة" أو منع أخرى "غير مرغوبة".
يحث الخبراء الطبيون على عدم إجراء الفحوص الجينية مطلقًا دون الحصول على موافقة مستنيرة من قبل المريض. والموافقة المستنيرة تعني أن اخصائيي الصحة قد أوضحوا للمريض بجلاء المخاطر والفوائد الناتجة عن هذه الفحوصات، وأن المريض وافق على الإجراء.